نزار قباني.. وخصوصية اللغة الشامية
“إن اللغة العربية تضايقهم لأنهم لا يستطيعون قراءتها.. والعبارة العربية تزعجهم لأنهم لا يستطيعون تركيبها.. وهم مقتنعون أن كل العصور التي سبقتهم هي عصور انحطاط، وأنَّ كل ما كتبه العرب من شعر منذ الشنفرى حتى اليوم.. هو شعر رديء ومنحط.
إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب.. ويريدون أن يخوضوا البحر وهم يتزحلقون بقطرة ماء.. ويبشرون بثورة ثقافية تحرق الأخضر واليابس.. وثقافتهم لا تتجاوز باب المقهى الذي يجلسون فيه.. وعناوين الكتب المترجمة التي سمعوا عنها.”
قلما استطاع شاعر أن يصبغ قاموس اللغة الشعرية بلغته وبيئته الخاصة كما فعل نزار قباني بقصائده.
نزار الفتى الدمشقي سلسل العائلة المعروفة.. ابن دمشق بكامل نضجها وفتوتها وفورانها المدني.. ابن البيت الدمشقي العتيق بكل ما يحتويه من طبيعة ورخاء ودفء وأسرار وفتحات سماوية وروائح عطرية..
هذا الفتى “المعزوز” بانتمائه وتاريخه قد رضع المفردات الدمشقية منذ طفولته.. فصبغت شعره ونثره ودواوينه بأكملها منذ أن بدأ وحتى آخر ما نشر.
الليمون.. البلور المكسور.. عروسة السكر.. الياسمين.. التفاح.. فساتين.. أتلفن.. شبابيك.. فنجاني المقلوب…. وغيره وغيره..
لغة شامية.. ومفردات رطبة مفعمة بالليل الدمشقي وعطور الحمضيات والشجيرات الغنية بالثمار البيتية.
لقد نحت نزار لغة شعرية خاصة.. وطعمها كما يتم تطعيم الموزاييك الدمشقي بالصدف.. فصارت لغة عربية فيها ما فيها من الأصالة والحداثة والهفهفة الدمشقية في آن معا.. وتحولت أخيرا إلى لغة جديدة وعامة بالإمكان استخدامها دون تلك الحواجز الهائلة بين العربي الحديث ولغته، ولعله قد أثبت أن اللغة العربية هي لغة مرنة تحتمل الزيادة والبناء والنحت والتركيب والتطعيم.. وتحتمل العطور المحلية التي تصبغها بصبغة المكان وأهل المكان.
“هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.. وثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، بل أظلم دارنا”.
هذا ما يقوله نزار عن بيته وبيئته.. ويكمل:
“في دارنا الدمشقية كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة، وإذا سقطت أسقط على حضن وردة، هذا البيت الدمشقي استحوذ على كل مشاعري، وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق، كما يفعل كل الصبيان في الحارات. طفولتي قضيتها تحت مظلة الفيء والرطوبة التي هي بيتنا العتيق في حي مئذنة الشحم. كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي، كان الصديق والواحة، والمشتى والمصيف. هذا البيت المظلة ترك بصماته واضحةً على شعري”.
حالة نادرة من الانتماء الحضاري.. والتأثر اللغوي الشعري.. أنتجت لنا إرثا كاملا يستحق القراءة والتأمل والتحليل والتذوق.
اقرأ المزيد عن حياة نزار قباني.