تُعد مشكلة انفصال لغة التعليم عن لغة البلد من القضايا المزمنة التي أثرت على ثقافتنا ونهضتنا في البلاد العربية ويظهر أثر هذه المشكلة جليًا عندما تُفرض لغة أجنبية على التعليم، ما يخلق فجوة بين الطلاب وثقافتهم ولغتهم الأم. حيث أن فصل لغة العلم عن اللغة الأم لأهل البلد يجعل من العلم كياناً أجنبياً دخيلاً على العقلية العامة، ويخلق تصوراً خاطئاً في وجدانهم حيث يعتقدون أن العلوم لم تخلق لهم، فهي حكر على الغربيين الأرقى منهم.
هذه المشكلة ليست محصورة باللغة العربية فقط، بل هي ظاهرة عانت منها أمم أخرى أيضا. على سبيل المثال، عبّر الفيلسوف والرياضي الألماني ((لايبنيز)) عن استيائه من استخدام اللاتينية في التعليم في عصره، قائلاً:
لم يبدِ علماؤنا رغبة قوية في حماية اللغة الألمانية، بعضهم لأنهم يظنون فعلاً أنه لا يمكن لباس الحكمة إلا بلباس لاتيني، والبعض الآخر لأنهم يخشون أن يكتشف العالم جهلهم الذي يخفونه خلف قناع من الكلمات الكبيرة، لقد تركت الأمة بعيدة عن المعرفة.
فرض لغة أجنبية للتعليم: تقدم أم تراجع؟
هناك من يعتقد أن استخدام لغة عالمية في التعليم هو خطوة نحو التقدم، ولكن هذا الرأي يحمل في طياته تحديات عدة. الدكتور محمد البغدادي، أحد أبرز العلماء السوريين في مجال الفيزياء النظرية، يوضح أن التفريق بين لغة الأبحاث ولغة التدريس أمر ضروري. فهو يرى أن القول بعدم صلاحية لغة ما للعلم والتعليم هو فكرة خاطئة، مشيرًا إلى أمثلة ناجحة لدول صغيرة مثل الدنمارك وآيسلندا التي تستخدم لغاتها الوطنية في التعليم العلمي، فما بالك باللغة العربية التي كانت لغات العلم لقرون في العصور الوسطى.
تجربة الدكتور البغدادي: نموذج للتمكين العلمي باللغة العربية
الدكتور محمد البغدادي يُعد من العلماء المميزين الذين كرسوا حياتهم لدعم التعليم العلمي باللغة العربية. بدأ مشواره أستاذًا في كلية الهندسة بالجامعة السورية، وساهم لاحقًا في تطوير مناهج الرياضيات والفيزياء في بلدان المغرب العربي كخبير لدى منظمة اليونسكو. استقر البغدادي في المغرب وأسس أول مختبر للفيزياء النظرية في جامعة محمد الخامس، وكان من مؤسسي القسم العربي الذي درّس المواد العلمية باللغة العربية في المدرسة العليا للأساتذة.
التحديات والحلول
مساهمات الدكتور البغدادي
بعد تقاعده، انطلق الدكتور البغدادي في مشروع موسوعي ضخم بعنوان “أسس الفيزياء المعاصرة”، وهو أول موسوعة فيزيائية باللغة العربية تتناول مختلف فروع الفيزياء النظرية. تتألف الموسوعة من خمسة مجلدات، تغطي موضوعات مثل:
- الميكانيك التقليدي والنسبوي.
- الميكانيك الإحصائي والثرموديناميك.
- الكهرومغناطيسية والضوء.
- ميكانيكا الكم.
- الفيزياء الإحصائية.
حاول البغدادي من خلال موسوعته تقديم رؤية شاملة للفيزياء النظرية، ما يفتح الأبواب أمام القراء لتعلم هذا العلم بلغتهم الأم.
خاتمة
إن قضية انفصال لغة التعليم عن لغة البلد تُعد تحديًا كبيرًا يتطلب جهودًا مشتركة من الأكاديميين وصناع القرار. تجربة الدكتور البغدادي تثبت أن اللغة العربية قادرة على استيعاب العلوم الحديثة وتقديمها بجودة عالية، شريطة أن تتوفر الإرادة لتطوير المراجع والمناهج.
السؤال الذي يبقى مطروحًا:
هل نحن مستعدون للخروج من حالة الانحطاط اللغوي أم سنغرق فيها أكثر؟
مصادر
مقابلة الجزيرة مع الدكتور البغدادي